فصل: تفسير الآيات (36- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (12- 14):

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}
{فعلك تاركٌ...} الآية. قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتابٍ ليس فيه سبُّ آلهتنا حتى نتَّبعك، وقال بعضهم: هلاَّ اُنزل عليك مَلَكٌ يشهد لك بالنُّبوَّة والصِّدق، أو تُعطى كنزاً تستغني به أنت وأتباعك، فهمَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يدع سبَّ آلهتهم، فأنزل الله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} أَيْ: لعظيم ما يَرِدُ على قلبك من تخليطهم تتوهَّم أنَّهم يُزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربِّك {وضائق به صدرك أن يقولوا} أَيْ: ضائق صدرك بأن يقولوا {لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير} عليك أن تُنذرهم، وليس عليك أن تأتيهم بما يقترحون {والله على كلِّ شيء وكيل} حافظٌ لكلِّ شيءٍ.
{أم يقولون} بل أيقولون {افتراه} افترى القرآن وأتى به من قبل نفسه {قل فأتوا بعشر سورٍ مثله} مثل القرآن في البلاغة {مُفترياتٍ} بزعمكم {وادعوا من استطعتم من دون الله} إلى المعاونة على المعارضة {إن كنتم صادقين} أنَّه افتراه.
{فإن لم يستجيبوا لكم} فإن لم يستجب لكم مَنْ تدعونهم إلى المعاونة، ولم يتهيَّأ لكم المعارضة فقد قامت عليكم الحجَّة {فاعلموا أنما أُنْزِلَ بعلم الله} أَيْ: أُنزل والله عالمٌ بإنزاله، وعالمٌ أنَّه من عنده {فهل أنتم مسلمون} استفهامٌ معناه الأمر، كقوله: {فهل أنتم منتهون.}

.تفسير الآيات (15- 18):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)}
{من كان يريد الحياة الدنيا} أَيْ: مَنْ كان يريدها من الكفَّار، ولا يؤمن بالبعث ولا بالثَّواب والعقاب {نوف إليهم أعمالهم} جزاء أعمالهم في الدُّنيا. يعني: إنَّ مَنْ أتى من الكافرين فِعلاً حسناً من إطعام جائعٍ، وكسوة عارٍ، ونصرة مظلومٍ من المسلمين عُجِّل له ثواب ذلك في دنياه بالزِّيادة في ماله {وهم فيها} في الدُّنيا {لا يُبخسون} لا يُنقصون ثواب ما يستحقُّون، فإذا وردوا الآخرة وردوا على عاجل الحسرة؛ إذ لا حسنة لهم هناك، وهو قوله تعالى: {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاَّ النار...} الآية.
{أفمن كان} يعني: النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم {على بيِّنة من ربه} بيانٍ من ربِّه، وهو القرآن {ويتلوه شاهد} وهو جبريل عليه السَّلام {منه} من الله عزَّ وجلَّ. يريد أنَّه يتَّبعه ويؤيِّده ويشهده {ومن قبله} ومن قبل القرآن {كتاب موسى} التَّوراة يتلوه أيضاً في التَّصديق، لأنّ موسى عليه السلام بَشّر به في التوراة، فالتوراة تتلو النبي صلى الله عليه وسلم في التصديق، وقوله: {إماماً ورحمة} يعني أنَّ كتاب موسى كان إماماً لقومه ورحمة، وتقدير الآية: أفمَنْ كان بهذه الصِّفة كمَنْ ليس يشهد بهذه الصِّفة؟ فترك ذكر المضادِّ له. {أولئك يؤمنون به} يعني: مَنْ آمن به مِنْ أهل الكتاب {ومن يكفر به من الأحزاب} أصنافِ الكفَّار {فالنار موعده فلا تك في مِرْيةٍ منه} من هذا الوعد {إنَّه الحقُّ من ربك ولكنَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون} يعني: أهل مكَّة.
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} فزعم أنَّ له ولداً وشريكاً {أولئك يعرضون على ربهم} يوم القيامة {ويقول الأشهاد} وهم الأنبياء والملائكة والمؤمنون {هؤلاء الذين كَذَبوا على ربهم ألا لعنةُ اللَّهِ} إبعاده من رحمته {على الظالمين} المشركين.

.تفسير الآيات (19- 24):

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}
{الذين يصدون عن سبيل الله} تقدَّم تفسير هذه الآية.
{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أَيْ: سابقين فائتين، لم يعجزونا أن نعذِّبهم في الدُّنيا، ولكن أخَّرْنا عقوبتهم {وما كان لهم من دون الله من أولياء} يمنعوهم من عذاب الله {يضاعف لهم العذاب} لإِضلالهم الأتباع {ما كانوا يستطيعون السمع} لأني حُلْتُ بينهم وبين الإِيمان، فكانوا صُمَّاً عن الحقِّ فلا يسمعونه، وعمياً عنه فلا يبصرونه، ولا يهتدون.
{أولئك الذين خسروا أنفسهم} بأن صاروا إلى النَّار {وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون} بطل افتراؤهم في الدُّنيا، فلم ينفعهم شيئاً.
{لا جرم} حقَّاً {أنهم في الآخرة هم الأخسرون}.
{إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأَخْبَتُوا إلى ربهم} اطمأنُّوا وسكنوا، وقيل: تابوا.
{مثل الفريقين} فريق الكافرين وفريق المسلمين {كالأعمى والأصم} وهو الكافر {والبصيرِ والسميع} وهو المؤمن {هو يستويان مثلاً} أَيْ: في المَثل. أَيْ: هل يتشابهان؟ {أفلا تَذَكَّرون} أفلا تتعظون يا أهل مكَّة.

.تفسير الآيات (25- 31):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}
{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} فقال لهم: يا قومي {إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلاَّ الله} أَيْ: أُنذركم لِتُوحِّدوا الله وتتركوا عبادة غيره {إني أخاف عليكم} بكفركم {عذاب يومٍ أليم} مؤلمٍ.
{فقال الملأ الذين كفروا من قومه} وهم الأشراف والرُّؤساء: {ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا} إنساناً مثلنا لا فضل لك علينا {وما نراك اتبعك إلاَّ الذين هم أراذلنا} أخسَّاؤنا. يعنون: مَنْ لا شرفَ لهم ولا مال {بادي الرأي} اتَّبعوك في ظاهر الرَّأي، وباطنهم على خلاف ذلك {وما نرى لكم} يعنون لنوحٍ وقومه {علينا من فضل} وهذا تكذيبٌ منهم؛ لأنَّ الفضل كلَّه في النُّبوَّة {بل نظنُّكم كاذبين} ليس ما أتيتنا به من الله.
{قال يا قوم أرأيتم} أَيْ: أعلمتم {إنْ كنت على بينة من ربي} يقينٍ وبرهانٍ {وآتاني رحمة من عنده} نُبوَّةً {فعميت عليكم} فخفيت عليكم؛ لأنَّ الله تعالى سلبكم علمها، ومنعكم معرفتها لعنادكم الحقَّ {أنلزمكموها} أَنُلزمكم قبولها ونضطركم إلى معرفتها إذا كرهتم؟
{ويا قوم لا أسألكم عليه} على تبليغ الرِّسالة {مالاً إن أجري إلاَّ على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا} سألوه طرد المؤمنين عنه ليؤمنوا به أنفةً من أن يكونوا معهم على سواء، فقال: لا يجوز لي طردهم إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم، ويأخذ لهم ممَّن ظلمهم وصغَّر شؤونهم، وهو قوله: {إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون} أنَّ هؤلاء خيرٌ منكم؛ لإِيمانهم وكفركم.
{ويا قوم مَنْ ينصرني من الله} مَنْ يمنعني من عذاب الله {إن طردتهم}؟
{ولا أقول لكم عندي خزائن الله} يعني: مفاتيح، وهذا جوابٌ لقولهم: اتَّبعوك في ظاهرِ ما نرى منهم، وهم في الباطن على خلافك، فقال مجيباً لهم: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله} غيوب الله {ولا أعلم الغيب} ما يغيب عني ممَّا يسترونه في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر منهم {ولا أقول إني مَلَك} جوابٌ لقولهم: {ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا} {ولا أقول للذين تزدري} تستصغر وتستحقر {أعينكم} يعني: المؤمنين: {لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم} أَيْ: بضمائرهم، وليس عليَّ أن أطَّلع على ما في نفوسهم {إني إذاً لمن الظالمين} إن طردتهم تكذيباً لهم بعد ما ظهر لي منهم الإِيمان.

.تفسير الآيات (34- 35):

{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
{إن كان الله يريد أن يغويكم} أَيْ: يُضِلَّكم ويوقع الغيَّ في قلوبكم لما سبق لكم من الشَّقاء {هو ربكم} خالقكم وسيِّدكم، وله أن يتصرَّف فيكم كما شاء.
{أم يقولون} بل أيقولون {افتراه} اختلف ما أتى به من الوحي {قل إن افتريته فعليَّ إجرامي} عقوبة جرمي {وأنا بريء مما تجرمون} من الكفر والتَّكذيب.

.تفسير الآيات (36- 44):

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}
{فلا تبتئس} أَيْ: لا تحزن ولا تغتم.
{واصنع الفلك بأعيننا} بمرأى منا، وتأويله: بحفظنا إيَّاك حفظ مَنْ يراك، ويملك دفع السُّوء عنك {ووحينا} وذلك أنَّه لم يعلم صنعة الفلك حتى أوحى الله إليه كيف يصنعها {ولا تخاطبني} لا تراجعني ولا تحاورني {في الذين ظلموا} في إمهالهم وتأخير العذاب عنهم، وقوله: {إن تسخروا منا} أَيْ: لما يرون من صنعه الفلك {فإنا نسخر منكم} ونعجب من غفلتكم عمَّا قد أظلَّكم من العذاب.
{فسوف تعلمون مَنْ يأتيه عذابٌ يخزيه} أَيْ: فسوف تعلمون مَنْ أخسر عاقبةً.
{حتى إذا جاء أمرنا} بعذابهم وهلاكهم {وفار التنور} بالماء، يعني: تنُّور الخابز، وكان ذلك علامةً لنوح عليه السَّلام، فركب السَّفينة {قلنا احمل فيها} في الفلك {من كلّ زوجين} من كلِّ شيءٍ له زوج {اثنين} ذكراً وأنثى {وأهلك} واحمل أهلك يعني: ولده وعياله {إلاَّ مَنْ سبق عليه القول} يعني: مَنْ كان في علم الله أنَّه يغرق بكفره، وهو امرأته واغلة، وابنه كنعان، {ومَنْ آمن} واحمل مَنْ صدَّقك {وما آمن معه إلاَّ قليل} ثمانون إنساناً.
{وقال} نوحٌ لقومه الذين أُمر بحملهم: {اركبوا} يعني: الماء {فيها} في الفلك {بسم الله مجريها ومرساها} يريد: تجري باسم الله، وترسي باسم الله، فكان إذا أراد أن تجري السفينة قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسي قال: بسم الله، فَرَسَتْ، أَيْ: ثبتت {إن ربي لغفور} لأصحاب السَّفينة {رحيم} بهم.
{وهي تجري بهم في موج} جمع موجةٍ، وهي ما يرتفع من الماء {كالجبال} في العِظَم {ونادى نوح ابنه} كنعان، وكان كافراً {وكان في معزل} من السَّفينة، أَيْ: في ناحيةٍ بعيدة عنها.
{قال سآوي إلى جبل} أنضمُّ إلى جبلٍ {يعصمني} يمنعني {من الماء} فلا أغرق، {قال} نوح: {لا عاصم اليوم من أمر الله} لا مانع اليوم من عذاب الله {إلاَّ مَنْ رحم} لكن مَنْ رحم الله فإنَّه معصوم {وحال بينهما} بين ابن نوحٍ وبين الجبل {الموج} ما ارتفع من الماء.
{وقيل يا أرض ابلعي ماءك} اشربي ماءك {ويا سماء أقلعي} أمسكي عن إنزال الماء {وغيض الماء} نقص {وقضي الأمر} أُهلك قوم نوحٍ، وفُرِغ من ذلك {واستوت} السَّفينة {على الجودي} وهو جبل بالجزيرة {وقيل بعداً} من رحمة الله {للقوم الظالمين} المتَّخذين من دون الله آلهاً.

.تفسير الآيات (45- 48):

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)}
{ونادى نوح ربَّه فقال ربِّ إنَّ ابني} كنعان {من أهلي وإنَّ وعدك الحق} وعدتني أن تنجيني وأهلي، أَيْ: فأنجه من الغرق {وأنت أحكم الحاكمين} أعدل العادلين.
{قال يا نوح إنه ليس من أهلك} الذين وعدتك أن أُنجيهم {إنه عمل غير صالح} أيْ: سؤالك إيَّاي أن أنجي كافراً عملٌ غير صالح، وقيل: معناه: إنَّ ابنك ذو عملٍ غير صالحٍ {فلا تسألني ما ليس لك به علم} وذلك أنَّ نوحاً لم يعلم أنَّ سؤاله ربَّه نجاةَ ولدِه محظورٌ عليه مع إصراره على الكفر، حتى أعلمه الله سبحانه ذلك، والمعنى: فلا تسألني ما ليس لك به علمٌ بجواز مسألته {إني أعظك} أنهاك {أن تكون من الجاهلين} من الآثمين، فاعتذر نوحٌ عليه السَّلام لمَّا أعلمه الله سبحانه أنَّه لا يجوز له أن يسأل ذلك وقال: {ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاَّ تغفر لي} جهلي {وترحمني أكن من الخاسرين}.
{قيل يا نوح اهبط} من السَّفينة إلى الأرض {بسلامٍ} بسلامةٍ. وقيل: بتحيَّةٍ {منا وبركات عليك} وذلك أنَّه صار أبا البشر؛ لأنَّ جميع مَن بقي كانوا من نسله {وعلى أمم ممن معك} أَيْ: من أولادهم وذراريهم، وهم المؤمنون وأهل السَّعادة إلى يوم القيامة {وأمم سنمتعهم} في الدُّنيا. يعني: الأمم الكافرة من ذريَّته لى يوم القيامة.